تاريخ القدس اليبوسية الكنعانية العربية القديم
خضعت أرض كنعان - فلسطين- ولفترات متقطعة في الألفين الثالث والثاني ق.م، للنفوذ السياسي المصري، ولما كان الكثير من ملوك الممالك الكنعانية يثورون بين الحين والآخر على النفوذ السياسي المصري، فقد انتهج فراعنة مصر سياسية عزل الحكام المعادين لهم وتعيين حكام موالين، على أن يدفعوا الجزية في مواعيدها، ولكي يتحقق أنهم يراعون ذلك، أخذوا الأنجال الكبار لهؤلاء الحكام إلى مصر رهائن ووضعوهم في مقر خاص يدعى «حصن طيبة»، وهناك تعلموا العلوم والمعارف، وغرس في قلوبهم حب مصر، وإذا ما مات أحد الحكام كان يسمح لنجله الأكبر بأن يعود إلى بلده ويقوم مقامه، وقد أصبح هذا الأمر تقليداً سارت عليه مصر طيلة فترة نفوذها في المنطقة.
وكان من بين هؤلاء الحكام الذين تربوا في بلاط فراعنة مصر وعادوا ليحكموا في بلادهم، الملك عبد حيبا ملك أوروسالم/ أورشليم (القدس) في عهد الملك المصري أمنحتب الرابع (أخناتون: 1375-1358ق.م) والذي في عهده تمكن الحثيون من إخضاع معظم شمالي سورية وفنيقية، وقد شجع ذلك على قيام عدة ثورات في البلاد الكنعانية ضد النفوذ المصري. وفي تلك الآونة تعرضت معظم المدن الكنعانية لغارات الخابيرو الذين تمكنوا بمساعدة حكام جازر وعسقلان من بسط نفوذهم على معظم أرض كنعان، غير أن الملك عبد حيبا ظل على ولائه لسيده الملك أخناتون.
«أما الخابيرو، فقد ذكر فيليب حتي أن أصل الكلمة أكادي وقد أطلقت لأول مرة في بلاد الرافدين على المحاربين في عهد نارام سن(نحو 2170ق.م) من ملوك السلالة الأكادية القديمة. وفي الحوليات الحثية ظهر الخابيرو لأول مرة في عهد الملك مرشلش الأول (حوالي 1600ق.م). وتظهر الكلمة في المدونات المصرية من حوالي (1300- 1150ق.م) بشكل عبيرو/ عابيرو، ويصل حتي إلى نتيجة وهي أن كلمة خابيرو لا تدل على أنها اسم لعرق أو جنس بعينه وإنما هي تسمية أطلقت على جماعات من الرحل والأجانب والأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على الغنائم، (تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، جـ1، ص 172-173)، وذكر برستد أنهم بدو ساميون كانوا يعملون كجند مرتزقة في صفوف الدول المتعددة في غرب أسيا»، (تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة حسن كمال، ص 257).
وليس هناك أي ربط بين الخابيرو والعبرانيين الذين جعل اليهود منهم اسماً وأصلاً لهم، لا من حيث التسمية ولا من حيث الأصل ولا من حيث الزمن، فالخابيرو/ العابيرو أسبق زمنياً من العبرانيين الذين خرجوا من مصر باتجاه أرض كنعان. وفي ذلك ينقل أحمد سوسة في كتابه العرب واليهود في التاريخ عن فرويد اليهودي قوله في كتابه «موسى والتوحيد» (نحن نعرف أخبار هؤلاء المحاربين من الرسائل المكتشفة عام 1887م في سجلات مدينة العمارنة المتهدمة، فهي تسميهم باسم عابيرو، وقد أطلق هذا الاسم فيما بعد لسنا ندري كيف اطلق هذا الاسم على الغزاة اليهود العبرانيين الذين لم تذكرهم رسائل العمارنة لأنهم قدموا في زمن لاحق). كما ذكر أحمد سوسة أن العبيرو تمكنوا من احتلال أريحا قبل عصر موسى عليه السلام بحوالي قرنين من الزمن، وبالتالي فليس هناك علاقة بين الخابيرو/ العابيرو، و العبرانيين اليهود (أحمد سوسة، العرب واليهود في التاريخ، ص 424-427).
وتدل ألواح تل العمارنة المكتشفة سنة 1887م في صعيد مصر على أن ملوك الممالك الكنعانية - فلسطين- كانوا يراسلون ملوك مصر في فترة النفوذ المصري في أرض كنعان، وكانت تلك المراسلات باللغة البابلية وبالخط المسماري، وهي اللغة السائدة في المراسلات السياسية والتجارة في بلاد كنعان آنذاك، وذلك منذ ظهور الدولة البابلية الكبرى في عهد ملكها الأموري/ العموري حمورابي الذي سادت الحضارة البابلية غرب آسيا في عهده واستمرت من بعده في اللغة والكتابة، في حين كانت اللغة العربية القديمة وهي لغة العرب الكنعانيين لغة التخاطب بين العامة في حياتهم اليومية.
ومن بين الملوك الذين كانوا يراسلون حكام مصر، الملك عبد حيبا ملك القدس (أوروسالم/ أورشليم) الذي ظل على ولائه لسيده أمنحتب الرابع (أخناتون) وبخاصة مع اشتداد الثورات الداخلية في بلاد كنعان ضد النفوذ المصري، فضلاً عن هجمات الخابيرو المتلاحقة على الكثير من المدن كأريحا وغزة ولخيش وبيت مرسم، وقد عبّر عبد حيبا في إحدى هذه الرسائل عن ولائه لسيده أخناتون ومما جاء فيها:
«إن هذه الأرض، أرض أوروسالم، لم يعطني إياها أبي ولا أمي ولكن أيدي الملك القوية هي التي ثبتتني في دار آبائي وأجدادي، ولم أكن أميراً بل جندياً للملك وراعياً تابعاً للملك.. منحت ملكية الأرض أوروسالم إلى الملك إلى الأبد ولا يمكن أن يتركها للأعداء».
أما الرسائل الأخرى فقد عبّر فيها عبد حيبا عن موقفه الدقيق والحرج أمام اشتداد هجمات الخابيرو. ونستدل من إحدى هذه الرسائل عن السبب المباشر الذي جعل عبد حيبا يبقى موالياً لسيده أخناتون وهو أن عبد حيبا قد نال حظوة كبيرة عند أخناتون فقد قلده السيادة على عدد من الممالك الكنعانية حتى امتدت سلطته إلى الكرمل شمالاً، وجعل ملوكها يأتمرون بأمره، ومما جاء في أولى تلك الرسائل:
«لقد ثارت كل بلاد الملك، فهذا المليكو (حاكم جازر غربي القدس) قد كان سبباً في فقدان كل أملاك الملك.. ليت الملك سيدي يبعث إلينا بوحدات من رماة السهام وإذا كان هناك رماة سهام في هذه السنة، لسوف تبقى أرض الملك دون أن يمسها سوء، ولكن إذا لم يكن هناك رماة سهام ضاعت أرض الملك..».
وفي رسالة أخرى: «انظر: لقد وضع الملك اسمه على أرض أورشليم إلى الآن حتى أنني لا يمكنني ترك أرض أورشليم».
وفي رسالة أخرى: «إنهم (أي الأعداء) الآن يحاولون الاستيلاء على أورشليم، وإذا كانت هذه الأرض ملكاً للملك.. هل تترك أورشليم تسقط، ليت الملك يرسل لنا خمسين رجلاً كحامية ليقوموا بحراسة البلاد، لقد ثارت أرض الملك كلها».
وفي رسالة أخرى:«ستضيع جميع أرض جلالتك التي ثارت علي، أما إقليم (شيري) الواصل إلى (جنتي كرمل) فقد شق عصا الطاعة علي وكذلك أمراؤه، لقد كانت سفن جلالتك الساعد القوي في بسط سلطتك على بلاد النهرين وقادش. أما الآن فقد احتل بدو الخابيري بلاد فرعون، ولم يبق لسيدي وال مطيع فالكل عصاه.. ليحترس الملك على قطائعه وبلاده.. وليرسل المدد.. لأنه إذا لم تصل جنود هذه السنة ذهبت ممتلكات جلالة فرعون سيدي.. وإذا تعسّر إرسال جنود هذه السنة فليرسل جلالة فرعون ضابطاً يلازمني للحضور وأنا واخوتي كي نموت مع سيدنا الملك».
وذكر الملك عبد حيبا في آخر رسالته حاشية لكاتب أخناتون جاء فيها:
«إلى كاتب سيدي الملك. أنا عبد حيبا.. أطلع جلالة سيدي فرعون على هذه الكلمات: إن جميع أراضي سيدي فرعون سائرة نحو الضياع. أخذ الفلسطينيون يهاجرون رعباً من فضائع بدو الخابيرو، فتركوا بلادهم واعتصموا بالجبال.. والتجأ بعضهم إلى مصر حيث وصفهم الضابط المصري المنوط بهم بقوله: لقد أتلفت أمتعتهم وحطمت مدنهم وأحرقت حاصلاتهم.. وضرب الجوع أطنابه في بلادهم وهم فوق الجبال كالأغنام».
وقد استجاب أخناتون لنداء عبد حيبا، فأرسل حملة عسكرية بقيادة بيخورو، لإعادة النظام وإخضاع الخابيرو، إلاّ أن هذا القائد عجز عن القيام بمهمته، فقد وصل إلى شمالي الجليل ولكنه أضطر إلى التقهقر، فبلغ القدس ثم تقهقر إلى غزة، والغالب أنه قتل في آخر الأمر. ولما لم تتمكن مصر من إخماد الثورات ومواجهة الخابيرو، فقد يئس ولاة مصر في جنوبي فلسطين من إصلاح الحالة والاحتفاظ بالنفوذ المصري، فقتل بعضهم وانضم الباقون إلى الأعداء. وقبل وفاة أخناتون كانت أرض كنعان قد خرجت عن طاعة مصر بصورة تامة إلى أن كان عهد الملك (سيتي الأول: 1313-1292ق.م) الذي قام بعدة حملات عسكرية تمكن خلالها من إعادة نفوذ مصر في سورية وأرض كنعان من جديد. وتمكّن أيضاً من هزيمة الحثيين المنافسين لمصر في سورية، فأصبحت مناطق نفوذه تمتد حتى نهر الليطاني شمالاً.
وفي عهد الملك (رعمسيس الثاني: 1292-1225ق.م) ابن سيتي الأول عادت الحروب بين المصريين والحثيين، غير أنها انتهت بهزيمة المصريين في معركة قادش شمالي سورية. وقد أثرت هذه الهزيمة في نفوس حكام بلاد كنعان فنزعوا من قلوبهم خشية المصريين وخرجوا عليهم ومنهم حكام القدس وعسقلان والكرمل والجليل، فقاد رعمسيس عدة حملات عسكرية متتالية ضد الثائرين، وعقب ثلاث سنوات من الحملات المتكررة والقتال مع الثائرين تمكن رعمسيس من إخماد هذه الثورات والسيطرة من جديد على البلاد الكنعانية. ثم عادت الحروب بين المصريين والحثيين سجالاً مدة خمس عشرة سنة، إلى أن انتهت سنة 1272ق.م بتوقيع صلح بينهما بحيث يكون جنوبي قادش وجبيل للمصريين وشملهما للحثيين. وبذلك تكون أرض كنعان قد انضوت تحت النفوذ المصري من جديد. ومما زاد في تكريس هذا الصلح بين الطرفين زواج رعمسيس من ابنة الملك الحثي (برستد، تاريخ مصر، صفحات متفرقة 139-316، أحمد سوسة، العرب واليهود في التاريخ، صفحات متفرقة 424-627، مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، جـ1،ق1،ص503-533).
(أوروسالم/ أورشليم) هي أسماء عربية أمورية/ عمورية- كنعانية، وبلغة عربية قديمة، وهكذا وردت في النقوش المصرية القديمة قبل أن يخلق على الأرض قوم عرفوا بالعبرانيين وألصق اليهود بأنفسهم هذا الاسم.
خضعت أرض كنعان - فلسطين- ولفترات متقطعة في الألفين الثالث والثاني ق.م، للنفوذ السياسي المصري، ولما كان الكثير من ملوك الممالك الكنعانية يثورون بين الحين والآخر على النفوذ السياسي المصري، فقد انتهج فراعنة مصر سياسية عزل الحكام المعادين لهم وتعيين حكام موالين، على أن يدفعوا الجزية في مواعيدها، ولكي يتحقق أنهم يراعون ذلك، أخذوا الأنجال الكبار لهؤلاء الحكام إلى مصر رهائن ووضعوهم في مقر خاص يدعى «حصن طيبة»، وهناك تعلموا العلوم والمعارف، وغرس في قلوبهم حب مصر، وإذا ما مات أحد الحكام كان يسمح لنجله الأكبر بأن يعود إلى بلده ويقوم مقامه، وقد أصبح هذا الأمر تقليداً سارت عليه مصر طيلة فترة نفوذها في المنطقة.
وكان من بين هؤلاء الحكام الذين تربوا في بلاط فراعنة مصر وعادوا ليحكموا في بلادهم، الملك عبد حيبا ملك أوروسالم/ أورشليم (القدس) في عهد الملك المصري أمنحتب الرابع (أخناتون: 1375-1358ق.م) والذي في عهده تمكن الحثيون من إخضاع معظم شمالي سورية وفنيقية، وقد شجع ذلك على قيام عدة ثورات في البلاد الكنعانية ضد النفوذ المصري. وفي تلك الآونة تعرضت معظم المدن الكنعانية لغارات الخابيرو الذين تمكنوا بمساعدة حكام جازر وعسقلان من بسط نفوذهم على معظم أرض كنعان، غير أن الملك عبد حيبا ظل على ولائه لسيده الملك أخناتون.
«أما الخابيرو، فقد ذكر فيليب حتي أن أصل الكلمة أكادي وقد أطلقت لأول مرة في بلاد الرافدين على المحاربين في عهد نارام سن(نحو 2170ق.م) من ملوك السلالة الأكادية القديمة. وفي الحوليات الحثية ظهر الخابيرو لأول مرة في عهد الملك مرشلش الأول (حوالي 1600ق.م). وتظهر الكلمة في المدونات المصرية من حوالي (1300- 1150ق.م) بشكل عبيرو/ عابيرو، ويصل حتي إلى نتيجة وهي أن كلمة خابيرو لا تدل على أنها اسم لعرق أو جنس بعينه وإنما هي تسمية أطلقت على جماعات من الرحل والأجانب والأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على الغنائم، (تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، جـ1، ص 172-173)، وذكر برستد أنهم بدو ساميون كانوا يعملون كجند مرتزقة في صفوف الدول المتعددة في غرب أسيا»، (تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة حسن كمال، ص 257).
وليس هناك أي ربط بين الخابيرو والعبرانيين الذين جعل اليهود منهم اسماً وأصلاً لهم، لا من حيث التسمية ولا من حيث الأصل ولا من حيث الزمن، فالخابيرو/ العابيرو أسبق زمنياً من العبرانيين الذين خرجوا من مصر باتجاه أرض كنعان. وفي ذلك ينقل أحمد سوسة في كتابه العرب واليهود في التاريخ عن فرويد اليهودي قوله في كتابه «موسى والتوحيد» (نحن نعرف أخبار هؤلاء المحاربين من الرسائل المكتشفة عام 1887م في سجلات مدينة العمارنة المتهدمة، فهي تسميهم باسم عابيرو، وقد أطلق هذا الاسم فيما بعد لسنا ندري كيف اطلق هذا الاسم على الغزاة اليهود العبرانيين الذين لم تذكرهم رسائل العمارنة لأنهم قدموا في زمن لاحق). كما ذكر أحمد سوسة أن العبيرو تمكنوا من احتلال أريحا قبل عصر موسى عليه السلام بحوالي قرنين من الزمن، وبالتالي فليس هناك علاقة بين الخابيرو/ العابيرو، و العبرانيين اليهود (أحمد سوسة، العرب واليهود في التاريخ، ص 424-427).
وتدل ألواح تل العمارنة المكتشفة سنة 1887م في صعيد مصر على أن ملوك الممالك الكنعانية - فلسطين- كانوا يراسلون ملوك مصر في فترة النفوذ المصري في أرض كنعان، وكانت تلك المراسلات باللغة البابلية وبالخط المسماري، وهي اللغة السائدة في المراسلات السياسية والتجارة في بلاد كنعان آنذاك، وذلك منذ ظهور الدولة البابلية الكبرى في عهد ملكها الأموري/ العموري حمورابي الذي سادت الحضارة البابلية غرب آسيا في عهده واستمرت من بعده في اللغة والكتابة، في حين كانت اللغة العربية القديمة وهي لغة العرب الكنعانيين لغة التخاطب بين العامة في حياتهم اليومية.
ومن بين الملوك الذين كانوا يراسلون حكام مصر، الملك عبد حيبا ملك القدس (أوروسالم/ أورشليم) الذي ظل على ولائه لسيده أمنحتب الرابع (أخناتون) وبخاصة مع اشتداد الثورات الداخلية في بلاد كنعان ضد النفوذ المصري، فضلاً عن هجمات الخابيرو المتلاحقة على الكثير من المدن كأريحا وغزة ولخيش وبيت مرسم، وقد عبّر عبد حيبا في إحدى هذه الرسائل عن ولائه لسيده أخناتون ومما جاء فيها:
«إن هذه الأرض، أرض أوروسالم، لم يعطني إياها أبي ولا أمي ولكن أيدي الملك القوية هي التي ثبتتني في دار آبائي وأجدادي، ولم أكن أميراً بل جندياً للملك وراعياً تابعاً للملك.. منحت ملكية الأرض أوروسالم إلى الملك إلى الأبد ولا يمكن أن يتركها للأعداء».
أما الرسائل الأخرى فقد عبّر فيها عبد حيبا عن موقفه الدقيق والحرج أمام اشتداد هجمات الخابيرو. ونستدل من إحدى هذه الرسائل عن السبب المباشر الذي جعل عبد حيبا يبقى موالياً لسيده أخناتون وهو أن عبد حيبا قد نال حظوة كبيرة عند أخناتون فقد قلده السيادة على عدد من الممالك الكنعانية حتى امتدت سلطته إلى الكرمل شمالاً، وجعل ملوكها يأتمرون بأمره، ومما جاء في أولى تلك الرسائل:
«لقد ثارت كل بلاد الملك، فهذا المليكو (حاكم جازر غربي القدس) قد كان سبباً في فقدان كل أملاك الملك.. ليت الملك سيدي يبعث إلينا بوحدات من رماة السهام وإذا كان هناك رماة سهام في هذه السنة، لسوف تبقى أرض الملك دون أن يمسها سوء، ولكن إذا لم يكن هناك رماة سهام ضاعت أرض الملك..».
وفي رسالة أخرى: «انظر: لقد وضع الملك اسمه على أرض أورشليم إلى الآن حتى أنني لا يمكنني ترك أرض أورشليم».
وفي رسالة أخرى: «إنهم (أي الأعداء) الآن يحاولون الاستيلاء على أورشليم، وإذا كانت هذه الأرض ملكاً للملك.. هل تترك أورشليم تسقط، ليت الملك يرسل لنا خمسين رجلاً كحامية ليقوموا بحراسة البلاد، لقد ثارت أرض الملك كلها».
وفي رسالة أخرى:«ستضيع جميع أرض جلالتك التي ثارت علي، أما إقليم (شيري) الواصل إلى (جنتي كرمل) فقد شق عصا الطاعة علي وكذلك أمراؤه، لقد كانت سفن جلالتك الساعد القوي في بسط سلطتك على بلاد النهرين وقادش. أما الآن فقد احتل بدو الخابيري بلاد فرعون، ولم يبق لسيدي وال مطيع فالكل عصاه.. ليحترس الملك على قطائعه وبلاده.. وليرسل المدد.. لأنه إذا لم تصل جنود هذه السنة ذهبت ممتلكات جلالة فرعون سيدي.. وإذا تعسّر إرسال جنود هذه السنة فليرسل جلالة فرعون ضابطاً يلازمني للحضور وأنا واخوتي كي نموت مع سيدنا الملك».
وذكر الملك عبد حيبا في آخر رسالته حاشية لكاتب أخناتون جاء فيها:
«إلى كاتب سيدي الملك. أنا عبد حيبا.. أطلع جلالة سيدي فرعون على هذه الكلمات: إن جميع أراضي سيدي فرعون سائرة نحو الضياع. أخذ الفلسطينيون يهاجرون رعباً من فضائع بدو الخابيرو، فتركوا بلادهم واعتصموا بالجبال.. والتجأ بعضهم إلى مصر حيث وصفهم الضابط المصري المنوط بهم بقوله: لقد أتلفت أمتعتهم وحطمت مدنهم وأحرقت حاصلاتهم.. وضرب الجوع أطنابه في بلادهم وهم فوق الجبال كالأغنام».
وقد استجاب أخناتون لنداء عبد حيبا، فأرسل حملة عسكرية بقيادة بيخورو، لإعادة النظام وإخضاع الخابيرو، إلاّ أن هذا القائد عجز عن القيام بمهمته، فقد وصل إلى شمالي الجليل ولكنه أضطر إلى التقهقر، فبلغ القدس ثم تقهقر إلى غزة، والغالب أنه قتل في آخر الأمر. ولما لم تتمكن مصر من إخماد الثورات ومواجهة الخابيرو، فقد يئس ولاة مصر في جنوبي فلسطين من إصلاح الحالة والاحتفاظ بالنفوذ المصري، فقتل بعضهم وانضم الباقون إلى الأعداء. وقبل وفاة أخناتون كانت أرض كنعان قد خرجت عن طاعة مصر بصورة تامة إلى أن كان عهد الملك (سيتي الأول: 1313-1292ق.م) الذي قام بعدة حملات عسكرية تمكن خلالها من إعادة نفوذ مصر في سورية وأرض كنعان من جديد. وتمكّن أيضاً من هزيمة الحثيين المنافسين لمصر في سورية، فأصبحت مناطق نفوذه تمتد حتى نهر الليطاني شمالاً.
وفي عهد الملك (رعمسيس الثاني: 1292-1225ق.م) ابن سيتي الأول عادت الحروب بين المصريين والحثيين، غير أنها انتهت بهزيمة المصريين في معركة قادش شمالي سورية. وقد أثرت هذه الهزيمة في نفوس حكام بلاد كنعان فنزعوا من قلوبهم خشية المصريين وخرجوا عليهم ومنهم حكام القدس وعسقلان والكرمل والجليل، فقاد رعمسيس عدة حملات عسكرية متتالية ضد الثائرين، وعقب ثلاث سنوات من الحملات المتكررة والقتال مع الثائرين تمكن رعمسيس من إخماد هذه الثورات والسيطرة من جديد على البلاد الكنعانية. ثم عادت الحروب بين المصريين والحثيين سجالاً مدة خمس عشرة سنة، إلى أن انتهت سنة 1272ق.م بتوقيع صلح بينهما بحيث يكون جنوبي قادش وجبيل للمصريين وشملهما للحثيين. وبذلك تكون أرض كنعان قد انضوت تحت النفوذ المصري من جديد. ومما زاد في تكريس هذا الصلح بين الطرفين زواج رعمسيس من ابنة الملك الحثي (برستد، تاريخ مصر، صفحات متفرقة 139-316، أحمد سوسة، العرب واليهود في التاريخ، صفحات متفرقة 424-627، مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، جـ1،ق1،ص503-533).
(أوروسالم/ أورشليم) هي أسماء عربية أمورية/ عمورية- كنعانية، وبلغة عربية قديمة، وهكذا وردت في النقوش المصرية القديمة قبل أن يخلق على الأرض قوم عرفوا بالعبرانيين وألصق اليهود بأنفسهم هذا الاسم.